Monday 4 November 2013

الثقافات المصرية


المجتمع المصرى لا يتسم، كما يظن البعض، بالتجانس الثقافى! سأعرض هنا أربع أنواع من الثقافات المنتشرة فى المجتمع المصرى من منظور يعتمد على الاحتكاك بقطاعات مختلفة فيه. "الثقافة الحاكمة" فى مصر هى الثقافة التى تسيطر على وسائل الاعلام! تلك الثقافة تتميز بالتمرد القوى ضد التقاليد "الريفية" كما تنظر بكثير من الاعجاب لما يسود العالم من ثقافة التحرر الاجتماعى و الاقتصادى. و ليس فى هذا، بشكل عام، أى نوع من التشكيك فى النوايا أو التعريض كما يدعى البعض، و انما هى وجهة نظر بها من المزايا التى تهدف الى رفع المستوى الاقتصادى و العلمى و الثقافى للمجتمع بغرض تحقيق الاستقرار و الرخاء، كما أن هذه الثقافة تحمل عيبا أساسيا فى طياتها يتمثل فى التجاهل و الإقلال من شأن الثقافات الأخرى فى المجتمع.

تتسم هذه الثقافة أيضا بالتمسك بفكرة فصل الدولة عن الدين و التى تتفاوت الأصوات المنادية بها من الطرد الكامل لأحكام الدين من النظام التشريعى للدولة مرورا باحترام الدين مع تقبل احكامه فى حدود الأمور الشخصية، كالزواج و الميراث فقط، و وصولا إلى قبول الاحتكام الى الأوامر الشرعية المختلفة، باعتبار أن الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، مع "الخوف" من تسلط قوى دينية تحكم بإسم الدين على نهج إيران و السعودية و افغانستان.

تنتشر فى مصر كذلك ثقافة "الإلتزام الأخلاقى"! يرى أصحاب هذه الثقافة أهمية الإلتزام بالأصول الأخلاقية و الثقافية للمجتمع المصرى و التى تمثل انعكاسا للميول المتدينة لهذا المجتمع مع القبول للأفكار "المستوردة" بعد "تنقيتها" للمساعدة فى تطوير المجتمع و الرفع من مستويات الاستقرار و الرخاء. يتميز أصحاب هذه الثقافة بارتفاع مستوى التعليم "الأكاديمى" و انخفاض مستوى التأثير الإجتماعى و انتمائهم الإقتصادى، غالبا، للطبقة "الوسطى الميسورة". تتركز هذه الثقافة "جغرافيا" فى المدن كما أن لها تأثير قوى فى المناطق الريفية بحكم الصلات العائلية، و لكن هذا التأثير محدود بعدم امتلاك أصحاب هذه الثقافة القدرات المالية و الاعلامية التى تتيح لهم التأثير الفعال فى الطبقات المختلفة فى المجتمع.

يرفض أصحاب هذه الثقافة مبدأ فصل الدولة عن الدين، بشكل عام، مع اشتراكهم مع "الثقافة الحاكمة" فى التخوف من تحول النظام الحاكم إلى نظام "حكم رجال الدين". يتميز أصحاب هذه الثقافة بصعوبة التأثير فيهم من قبل الأدوات الإعلامية "للثقافة الحاكمة" كما يتميزون بالمرونة فى التعامل مع المستجدات الثقافية مع عدم القبول الكامل لكل ما يعرض عليهم من الثقافات الأخرى. كما يعيب أصحاب هذه الثقافة، فى كثير من الأحوال، الميل للنظر إلى أصحاب الثقافات الأخرى بنظرة استعلاء.

أما الثقافة الثالثة التى تنتشر فى المجتمع المصرى فهى ما يمكن تسميته "بالثقافة المحافظة". يميل أصحاب هذه الثقافة إلى الالتزام التام بمبادئ ثقافية ذات توجهات دينية، كما يؤمنون بأن هذا الالتزام هو أحسن وسيلة للوصول إلى مجتمع "فاضل" ينعم فيه الجميع بالاستقرار و الرخاء و السعادة. تتميز هذه الثقافة بالتأثر البالغ بالمذاهب الدينية "الظاهرية" و التمرد المعلن على المذاهب الدينية المنتشرة فى المجتمع المصرى بشكل عام و على الثقافة الصوفية للمجتمع بشكل خاص. ينتشر اصحاب هذه الثقافة فى جميع طبقات المجتمع مع قلة الأعداد و التميز الواضح فى المظهر. لأصحاب هذه الثقافة تأثير قوى فى السلوك العام للمجتمع من خلال شبكة إعلامية متوسطة القوة و من خلال التواجد المكثف فى المحافل الدينية مما يعطى أصحابها مصداقية عالية بين الكثير من الناس.

يمتاز أصحاب هذه الثقافة بالدفاع المستميت عنها و بالالتزام بعدم الاطلاع على ما تعرض له الثقافات الاخرى. ينادى أصحاب هذه الثقافة بقيام نظام حكم على أساس من المرجعية الدينية، و ان كانوا لا يعترفون بعصمة للعلماء إلا أنهم يؤمنون بشكل شبه كامل بصحة ما يراه العلماء المنتمون لنفس الثقافة. لا يمكن التغاضى عن الميزة الأساسية فى هذه الثقافة من أنها تمثل "المرساة" التى تمنع المجتمع من الجنوح فى طريق رفض الدين بشكل عام و خلق التوازن أمام التطرف، الآخر، فى طريق التغريب و الاستيراد "الغير مرشد" لمبادئ الثقافات الأخرى.

أما الثقافة الرابعة فى المجتمع المصرى فيمكن تسميتها "بالثقافة البسيطة"!!! لا يؤمن أصحاب هذه الثقافة "بالثقافة الحاكمة" مع نظرهم اليها بإعجاب كما أنهم يحترمون اصحاب "ثقافة الالتزام الأخلاقى" و يعتبرونهم من "خيرة العقول" كذلك فإنهم يميلون إلى أصحاب "الثقافة المحافظة" بحكم الطبيعة المتدينة للمجتمع المصرى. مع ذلك، لأصحاب هذه الثقافة سمات تميزهم عن أصحاب الثقافات الأخرى، من هذه المميزات هو الالتزام الواضح بالانتماء "للجماعة"، العائلة و القرية و القبيلة، و الذى يستتبع الاحترام و الاتباع لتوجيهات "الرموز" الموجودة بهذه الجماعة، العمدة و الجد و الشيخ، مع التحيز الشديد لهذه الجماعات أو الرموز فى كل الخلافات أو الصراعات. تسود هذه الثقافة المجتمع المصرى بشكل عام و خاصة فى المناطق الريفية و الصحراوية.

تمثل هذه الثقافة القطاع الأعرض فى المجتمع المصرى. كما انها العقبة الكؤود فى طريق التطبيق الديموقراطى فى مصر! ينتمى أكثر أهل هذه الثقافة إلى فئات المزارعين و الفلاحين. يتفاعل أهل هذه الثقافة مع العملية الديموقراطية من وجهة نظر مرجعيتها الأساسية هى الإنتماء للجماعة، كما أنهم يتقدمون للمشاركة فيها بناء على "توصيات" الرموز. كما يتميزون بالرفض العام للتغيير و الركون للاستقرار و الأمن الذان يأتيان مع بقاء الأمر الواقع. كذلك، فإن تأثير أدوات "الثقافة الحاكمة"، من أجهزة اعلام و صحف، يكون كبيرا على تكوين الرأى العام لأهل هذه الثقافة.

تتفاعل هذه الثقافات الأربع فى المجتمع المصرى و لكنها لا تختلط بشكل متجانس. ينتج عن هذا المزيج ما يمكن أن نطلق عليه اسم الثقافة المصرية. على مدى العقود الماضية، منذ خمسينيات القرن العشرين، حاولت الحكومات المتعاقبة فرض ثقافة متجانسة على المجتمع المصرى من خلال البرامج التعليمية و اجهزة الاعلام و الصحافة. بالرغم من ذلك، استمر التباين بين هذه الثقافات مع عدم وجود خطوط واضحة للحد بينها، ذلك ان المجتمع المصرى يتسم بالتجانس العرقى و اللغوى و الدينى مما لم يسمح بخلق هذه الحدود و لا بذوبان الثقافات بعضها فى الآخر.

خلق هذا التباين القائم بين الثقافات المصرية واقعا صعبا فى المجال السياسى، سوف يكون موضوع آخر نعرضه قريبا ان شاء الله.