Thursday 18 August 2011

الجنون و المجنون

كلمة مجنون مشتقة من إسم الجن حيث كان الأقدمون يظنون أن المرضى النفسيين و العقليين إنما هم "ملبوسون" بالجن. و ظل هذا التفسير لسلوك هؤلاء المرضى سائدا فى الكثير من الثقافات حتى وقت قريب.

المجنون إنسان مريض! هكذا يتعامل معه المجتمع و الأطباء و الأخصائيون النفسيون حيث يجمعون على أن خللا فى الإنزيمات التى تتحكم فى السلوك يؤدى إلى الإضطراب النفسى مثل الإكتئاب و الهلاوس و الضلالات و غيرها من سمات سلوك المرضى النفسيين. كما أن المتخصصين تمكنوا من تحديد سمات لخلل فى المخ (العضو الذى يعتبر محلا للعقل) تؤدى إلى أعراض الأمراض العقلية.

بالطبع لن تتحول هذه المقالة إلى درس فى الطب النفسى، ولكن هذه المقدمة كانت ضرورية لتوجيه الإنتباه إلى طبيعة "الجنون"

فى القرن التاسع عشر، كتب الكاتب الفرنسى الشهير فيكتور هيوجو واحدة من أجمل القصص و التى أسماها "يوميات مجنون". قدم فى هذه القصة حياة رجل مجنون من خلال اليوميات التى يكتبها بنفسه! فنقرأ يوما أنه "تبين له" أنه هو ملك فرنسا و أن حاشيته من حوله منهم المطيع و منهم الخائن و منهم من يستحق السجن، ثم نصبح معه فى يوم آخر و هو يرى نفسه عالما أو فيلسوفا أو أديبا!

الجميل فى هذه القصة هو تمكن الكاتب من عرض العالم من خلال أعين المجنون بشكل يجعلك تعتقد أن ما يكتبه هو الحقيقة و لولا إسم الكتاب لقرأت معظمه و أنت تظن أن هناك مؤامرات تدور حول صاحب اليوميات قبل أن يتبين لك أن هناك مشكلة تدور فى عقله.

لننتقل معا إلى أواخر القرن العشرين. وصل إلى علمى من أحد دروس علم النفس أن حالة نفسية لامرأة كانت أنها عاشت فترة طويلة من حياتها مع زوج يعاملها بشكل شديد السوء كما أنها تعرضت لحالة صحية أدت إلى فقدانها القدرة على الإنجاب. نتج عن هذه الظروف القاسية، و غيرها من العوامل الإجتماعية و الوراثية بالطبع، تعرض المرأة إلى حالة من الإنفصال العقلى عن المجتمع، فأصبحت تتخيل نفسها أميرة من الأميرات يحيط بها الخدم و الحاشية الذين يولونها الإهتمام و الحب كما أنها أصبحت تتخيل أنها ترزق بطفل جديد كل يوم.

المفارقة فى هذه القصة أن الطبيب المعالج قال صراحة أنه فى حيرة من أمره، هل يستمر فى علاج تلك المرأة لتعيش فى الواقع مع كل الآلام التى فيه أم يتركها تعيش أيامها فى السعادة الوهمية التى خلقتها لنفسها فتعيش ما بقى لها من أيام فى سعادة حتى لو كانت من صنع عقل مريض؟

الواقع هو أن الإنسان "العاقل" غير موجود! العاقل هو من يعتبره المجتمع عاقلا! إذا فالمقياس غير ثابت بين المجتمعات المختلفة. لعلك شاهدت بعض الأفلام الهزلية التى تحكى قصة أحد "العقلاء" الذى أُدخل مستشفى "المجانين" و كيف أن قواعد العقل و المنطق التى كان يعيش بها أصبحت غير مقبولة فى المجتمع الجديد!

قد لا يكون هذا المقال أكثر من خواطر مجنون يظنه الناس من العقلاء أو خواطر عاقل يعيش فى مجتمع من المجانين، و لكن ما يهمنى هو أن يفتح المقال عينيك على أن المنطق و العقل مسألة نسبية فى كل الأحوال و أن الأطر التى يضعنا فيها المجتمع قد تكون هى المشكلة الحقيقية و ليس الأفكار التى تدور فى رؤوسنا.

فكر و اعقل و تدبر

المهم أن لا تفقد عقلك

No comments:

Post a Comment